الأحد، 1 يونيو 2025

مدينة لوز: ثرثرة توراتية



## 🏛️ مدينة لوز: ثرثرة توراتية في جغرافيا النص


حين نقرأ التوراة من زاوية نقدية، نجد أنفسنا أمام **نصوص لا تعكس الماضي بقدر ما تصنعه**. واحدة من أبرز هذه الحالات هي قصة يعقوب في رحلته من بئر سبع إلى حاران، حيث **نام على حجر، فاستيقظ ليُغير اسم مدينة!**


> "وبكر يعقوب في الصباح وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه، وأقامه عمودًا، وصب زيتًا على رأسه.

> ودعا اسم ذلك المكان «بيت إيل»، ولكن اسم المدينة أولًا كان **لوز**."

> – تكوين 28:18–19


### 🪨 حجر، حلم، زيت… وقرار سيادي!


يعقوب هنا **مجرد عابر سبيل، هارب من أخيه، نام على حجر**، ثم استيقظ مدعيًا أنه اكتشف المكان، وأعطاه اسمًا جديدًا، كأنه حاكم المدينة أو واضع خرائط.


لكن المفارقة الكبرى هي أن **اسم بيت إيل كان قد ذُكر من قبل**:


* **تكوين 12:8**: إبراهيم بنى مذبحًا شرق **بيت إيل**.

* **تكوين 13:3**: بين **بيت إيل وعاي**.


فكيف يقول النص إن يعقوب هو من سمّى المكان؟

ولماذا لم يُذكر اسم **لوز** في أي مكان سابق إلا هنا، وكأنه حاشية من كاتب لاحق يريد تبرير التناقض؟

هل غيّر يعقوب اسم المكان مرتين؟

يظهر في سفر التكوين أن يعقوب أطلق على نفس المكان اسمين في مناسبتين مختلفتين:

  1. في تكوين 28، حين رأى السلم والملائكة أثناء فراره من عيسو، دعا المكان: بيت إيل (بيت الله)، وكان اسم المدينة أولًا: لوز.

  2. ثم في تكوين 35:7، بعد عودته من رحلة الهروب، بَنى مذبحًا هناك ودعا المكان: إيل بيت إيل (الإله بيت الله).

لكن هل هذا تغيير جديد للاسم؟ لا. هو بالأحرى توسيع لرمزية الاسم، وليس إعادة تسمية.

يعقوب لم يعد يرى المكان فقط كموقع رؤية، بل كمكان ظهور إلهي وتجديد عهد. لذا لم يكتفِ بـ"بيت الله" بل وصفه بـ"إله بيت الله"، في إشارة إلى علاقته الشخصية المجددة مع الإله الذي التقاه هناك.

التكرار لا يعني الجهل أو النسيان، بل يعكس على الأرجح:

  • إما تعدد المصادر التقليدية التي جُمعت في النص.

  • أو نمو رمزي داخل السرد، حيث يتغير اسم المكان تبعًا لتحوّل يعقوب نفسه.

هكذا تصبح "لوز – بيت إيل – إيل بيت إيل" ليست مجرد أسماء، بل مراحل من تطور روحي وإنساني لشخصية يعقوب.

ما رأيك ايها القارئ في التضليل السابق ؟

إذًا، ما هو القول الحق الذي يستحق النشر؟

هو هذا:

يعقوب لم يكن ينمو روحيًا، بل يهرب باستمرار من نتائج أفعاله. وكلما هرب، غلّف هروبه باسم جديد ومذبح جديد. إعادة تسمية المكان ليست علامة نضج، بل وسيلة لإعادة كتابة التاريخ وتجميل الصورة.

---


## 🧭 بئر سبع: اسم واحد... بأكثر من حكاية!


نفس العبث التحريري يظهر بوضوح في قصة **بئر سبع**:


* في **تكوين 21**، إبراهيم يصالح أبيمالك هناك ويسمي المكان "بئر سبع" لأنه **حلفا هناك كلاهما**.

* ثم في **تكوين 26:33**، بعد حفر إسحاق لبئر أخرى، يُقال:


> "فدعاها «شبعة»، لذلك اسم المدينة **بئر سبع** إلى هذا اليوم."


وهنا تتكرر المشكلة نفسها:


* كيف يُقال إن إسحاق هو من أطلق الاسم، بينما سبق لإبراهيم أن سمّى نفس المكان؟

* ولماذا تستمر الإشارة للاسم "بئر سبع" مرارًا بين الحكايتين دون تحفظ، وكأن القارئ لن يلاحظ هذا الارتباك؟


---


## 🧱 سلطة التسمية: وهم نبوّي


في كلتا القصتين، نجد شخصية توراتية:


* **لا تحكم الأرض.**

* **لا تقيم فيها.**

* **ولا تمتلك سلطة قانونية.**


ومع ذلك، تمنح نفسها سلطة **إعادة تسمية أماكن مأهولة**، وكأن النص نفسه يطمس **حقائق الواقع الجغرافي والسياسي** ليؤسس قداسة روحية بأثر رجعي.


تسمية "بيت إيل" و"بئر سبع" تشبه أن تقول عن رضيعة:


> "هذه السيدة فلانة"،

> بناءً على ما ستصبح عليه مستقبلاً.


---


## 📜 خلاصة: حين تكتب التوراة التاريخ بالقلم المقدس


النتيجة أن القارئ يجد نفسه في مواجهة **نص توراتي لا يسرد الماضي، بل يعيد كتابته بتكهنات دينية**:


* أماكن تُمنح قدسية لأنها ذُكرت في حلم.

* أسماء تُكرّر لأماكن ذُكرت مسبقًا، وكأننا نعيد تسميتها دون حاجة.

* **ثرثرة تحريرية** تخفي وراءها محاولات فرض سردية لاحقة على وقائع سابقة.


9 وظهر الله ليعقوب ايضا حين جاء من فدان ارام وباركه. 10 وقال له الله: «اسمك يعقوب. لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل يكون اسمك اسرائيل». فدعا اسمه «اسرائيل». 11 وقال له الله: «انا الله القدير. اثمر واكثر. امة وجماعة امم تكون منك، وملوك سيخرجون من صلبك. 12 والارض التي اعطيت ابراهيم واسحاق، لك اعطيها، ولنسلك من بعدك اعطي الارض». 13 ثم صعد الله عنه في المكان الذي فيه تكلم معه. 14 فنصب يعقوب عمودا في المكان الذي فيه تكلم معه، عمودا من حجر، وسكب عليه سكيبا، وصب عليه زيتا. 15 ودعا يعقوب اسم المكان الذي فيه تكلم الله معه «بيت ايل».لماذا يبدو لي النص السابق في ت 35 خارج السياق تماما ؟

ملاحظتك دقيقة جدًا، وفي الواقع هذا **الإحساس بانفصال النص** ليس شعورًا فرديًا، بل يشترك فيه كثير من الدارسين والمفسرين، خاصة الذين يدرسون **التحرير الأدبي للنص التوراتي**. إليك تحليلًا مفصلًا يساعدك على فهم لماذا يبدو هذا المقطع (تكوين 35:9–15) **خارج السياق**.


---


## ✂️ أولًا: لماذا يبدو النص مُقحمًا أو مكررًا؟


### 1. **تكرار غير مبرر لتغيير الاسم**


* الله يُغيّر اسم يعقوب إلى **إسرائيل** في هذا النص (35:10)،

  لكن هذا قد حصل سابقًا بالفعل في **تكوين 32:28** بعد مصارعته مع الملاك:


  > "لا يُدعى اسمك يعقوب بعد، بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت".


👉 فلماذا يُعاد التغيير هنا؟ ولماذا لا يستخدم النص اسم "إسرائيل" بشكل ثابت بعد ذلك؟

هذا التكرار **لا يظهر كتطور طبيعي**، بل يبدو كأن مقاطع مختلفة **دمجت** دون تحرير موحد.


---


### 2. **البركة وبيت إيل ذُكرت سابقًا**


* يعقوب زار **بيت إيل** سابقًا في (تكوين 28) حين هرب من عيسو، وهناك حلم بالسلم، وأقام **نذرًا**، ونصب **عمودًا**، وصب **زيتًا**، وسمّى المكان "بيت إيل".


👉 فما يحدث هنا في تكوين 35 يبدو **كإعادة لنفس الطقس**:

نصب عمود، وسكب زيتًا، وسُمِّي المكان "بيت إيل" مجددًا!


هذا يشير إلى احتمال أن كاتبًا لاحقًا **دمج نسختين من نفس القصة**، إحداهما تنتمي إلى تقليد مختلف (اللاهوت الكهنوتي أو الإلوهيمي أو اليهوي حسب فرضيات النقد الأعلى).


---


### 3. **القطع المفاجئ مع السياق السابق**


* قبل هذا المقطع، في الآيات 1–8، نقرأ عن تطهير يعقوب لأهله، ودفن أصنام راحيل، ثم موت **دبورة مرضعة رفقة**.

* وبعد المقطع، ننتقل مباشرة إلى **ولادة بنيامين** وموت راحيل في الطريق.


⚠️ **لكن البركة وتغيير الاسم** لا يتناسبان زمنيًا أو شعوريًا مع هذه السياقات.

كأن **الآية 9–15** أُدرجت إدراجًا دون تمهيد أو تتابع درامي طبيعي.


---


## 🧩 ثانيًا: ما الذي يقوله النقد الأدبي الحديث؟


بحسب منهج **النقد المصدر (Documentary Hypothesis)**، فإن سفر التكوين ليس كتابًا موحدًا من كاتب واحد، بل نتيجة جمع **عدة تقاليد (مصادر)**:


* المصدر **اليهوي (J)**

* المصدر **الإلوهيمي (E)**

* المصدر **الكهنوتي (P)**

* أحيانًا يُضاف مصدر **الناسخي أو التحريري (R)**


ويُعتقد أن:


> هذا المقطع (تكوين 35:9–15) يعود إلى **المصدر الكهنوتي (P)**، الذي يعيد صياغة و"تقنين" الأحداث بشكل رسمي، ويركّز على العقود، والعهود، والبركة، وتنظيم النسل.


بالتالي، فإن هذا التكرار ليس نتيجة "نسيان"، بل **نتيجة دمج** روايتين مختلفتين.


---


## 📌 خلاصة تحليلية:


نعم، يبدو المقطع **خارج السياق** للأسباب التالية:


1. **تكرار بلا مبرر** لأحداث حصلت سابقًا (تغيير الاسم، بيت إيل).

2. **عدم ترابط زمني** أو درامي مع ما قبله وما بعده.

3. **أسلوب مختلف** في اللغة والاهتمام بالطقوس، أقرب إلى المصدر الكهنوتي.

4. **يخدم غرضًا لاهوتيًا تحريريًا لاحقًا** أكثر من كونه تطورًا سرديًا عضويًا.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بكم