شيزوفرانية يوسف التوراتي – بين القدر الإلهي ولعبة السيطرة
في إحدى أكثر اللحظات إرباكًا في سردية يوسف التوراتي، يصرّح يوسف لإخوته بعد أن كشف عن هويته:
> "فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا، بل الله." (تكوين 45:8)
وكأن يوسف يطلب منهم أن يغفروا لأنفسهم، فهو لا يراهم مذنبين. بل يعتبر نفسه أداة في خطة إلهية كبرى، هدفها إنقاذ الأسرة من المجاعة.
لكن التناقض يظهر بوضوح صارخ حين نراجع تصرفاته السابقة:
* سجنهم بلا تهمة.
* اتهمهم بالجاسوسية وهو يعلم ببراءتهم.
* وضع كأسه عمدًا في عدل بنيامين ليبتزهم عاطفيًا.
* راقبهم خفية، وأوهمهم بلعبة "الترجمان".
* وبكى مرات كثيرة ثم عاد ليُكمِل مشهده بوجه جامد.
### تناقض الإيمان والسلوك
إذا كان يوسف حقًا مقتنعًا أن الله هو من أرسله إلى مصر، فلماذا لم يسلك الطريق الأقصر؟ لماذا لم يُعلن عن نفسه فور رؤية إخوته؟ لماذا لم يرسل لأبيه وبنيامين من البداية، خاصة وأنه يملك السلطة المطلقة؟
هذا التناقض بين الإيمان المُعلن والسلوك المُمارس يمكن تسميته بوضوح بـ"شيزوفرانية يوسف التوراتي".
هو يُعلن الورع والإيمان بالقضاء الإلهي، لكنه في الوقت نفسه يستمتع بلعبة السيطرة، بل يبدو كمَن يُمارس اختبارًا نفسيًا طويلًا بلا داعٍ حقيقي.
### التبرير بأثر رجعي
قد يكون يوسف لم يرَ يد الله إلا بعد أن استتب له الحكم في مصر، وبعد أن جاء إليه إخوته نادمين. عندها فقط صاغ القصة بمفهوم ديني يبرر ما جرى. وهذا ما نسميه "التبرير بأثر رجعي".
لكن هذا لا يُسقط عنه مسؤولية أفعاله، خاصةً وهو يملك حرية اتخاذ القرار.
### السلوك المضاد للغفران
الغفران الحقيقي لا يحتاج لتمثيلية مهينة.
وإذا كان يوسف غفر لهم فعلًا، فلماذا اختبارهم بهذا الشكل؟ وإذا لم يكن قد غفر، فلماذا يُعلن أن الله أرسله؟ وكيف يزعم الورع وهو يستخدم اسم الله داخل خطة خداعية؟
### النهاية:
إن يوسف التوراتي ليس فقط شخصية درامية، بل شخصية تعاني من تناقض بين الظاهر والباطن. يُعلن الإيمان لكنه يُخفي النية، يُظهر الرحمة لكنه يُمارس السيطرة.
وبدلًا من أن يتحرك بدافع الحنين أو الوفاء، يتحرك بدافع الترقب والتلاعب.
فهل كان حقًا نبيًا متزنًا؟ أم رجل سلطة بارعًا في تغليف السيطرة بلغة القداسة؟
هكذا نرى أن يوسف – في ضوء النص التوراتي – ليس رمزًا للبراءة فقط، بل رمزًا للانقسام الداخلي بين الروح والقوة، بين الإيمان والسلوك، بين الله والمسرح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
مرحبا بكم