**رفقة: المرأة التي سمعت ما لم يُقَل... وصنعت التاريخ العائلي لبني إسرائيل**
في سرد التوراة، تقف رفقة كواحدة من أكثر النساء تأثيرًا وغموضًا في آنٍ معًا، ليس فقط لأنها والدة يعقوب وعيسو، بل لأنها كانت المحرك الخفي والمعلن لمسار النسب الإبراهيمي.
### 1. المرأة التي سمعت ما لم يُقَل
في تكوين 27:42 نقرأ:
> "فأُخبرت رفقة بكلام عيسو ابنها الأكبر..."
لكن النص السابق مباشرة يقول إن عيسو:
> "قال في قلبه: قربت أيام مناحة أبي، فأقتل يعقوب أخي."
كيف علمت رفقة بما دار في قلب عيسو؟ لم ينطق بكلمة. لا أحد يخبرها. ومع ذلك، تُبنى عليها أحداث محورية! هنا تظهر رفقة كـ **كاهنة سرية أو سامعة خفية**، تُمنَح معرفة لا تُفسّر.
كما في تكوين 22:20:
> "وحدث بعد هذه الأمور أن إبراهيم أُخبر..."
عبارة مبهمة بنفس البنية، دون تحديد المخبِر، وتأتي تمهيدًا دراميًا لتقديم نسب رفقة، العروس المنتظرة لإسحاق لاحقًا.
👉 هذه العبارات ("فأُخبرت..."، "وأُخبر...") ليست مجرد لغة بل **أدوات انتقالية** يستخدمها الكاتب التوراتي عندما يريد تمرير مشهد جديد دون مبررات منطقية واضحة، وبدون سند سردي داخلي. إنها أشبه ببطاقة "تجاوز" يستخدمها الروائي حين يضيق به المنطق.
### 2. رفقة: مُحركة الأحداث بلباس الأمومة
رفقة لم تكن يومًا مستقبلة سلبية للوحي أو الأحداث، بل كانت دومًا فاعلة:
* تقرأ نبوءة ربانية في تكوين 25:23 عن غلبة الصغير.
* تُخطط وتُنفذ الخديعة الكبرى لإسحاق.
* تقرأ ما في قلب عيسو دون أن يتكلم.
* تُحرّك قرار إسحاق بإرسال يعقوب إلى بيت أبيها.
يبدو أن غرضها لم يكن الهروب من بطش عيسو، بل **تأمين زواج يعقوب من فتاة العائلة المُختارة**. تقول:
> "مللت حياتي من أجل بنات حث..."
ثم يتحول الأمر إلى خطة لإرساله إلى فدان آرام. وهنا نعود للملاحظة:
* عند زواج إسحاق من رفقة، يُقال إنها من "مدينة ناحور".
* أما حين يُرسل يعقوب، فتُدعى المنطقة "فدان آرام".
تبدلات اصطلاحية تكشف أن الكاتب لا يعتمد على سجل جغرافي دقيق، بل يتلاعب بالأسماء بما يخدم السرد في لحظته.
### 3. ثرثرة توراتية في تسمية الأماكن
كما اختل المنطق في قصة رفقة، نرى أيضًا تناقضًا فاضحًا في تسمية الأماكن:
#### مدينة لوز التي أصبحت بيت إيل
في تكوين 28:19
> "ودعا اسم ذلك المكان بيت إيل، ولكن اسم المدينة أولاً كان لوز."
لكننا نجد أن الاسم **بيت إيل** استُخدم مسبقًا في تكوين 12 و13!
فكيف يتم تقديمه هنا على أنه اسم جديد؟
بل أكثر، يعقوب مجرد عابر طريق، لا يملك الأرض، وليس نبيًا رسميًا بعد، ولا يملك جمهورًا يُشهِر الاسم الجديد، ومع ذلك يقوم بإعادة التسمية بكل ثقة!
الأمر نفسه تكرر في:
#### بئر سبع
> "فدعاها شبعة، لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم" (تكوين 26:33)
رغم أن الاسم نفسه أُطلق في وقت سابق في قصة إبراهيم وأبيمالك، كمكان صُلح وحلف.
هذا التكرار في "تدشين" الأسماء يوحي بأن الكاتب يعيد كتابة الأحداث بنَفَسٍ لاهوتي لا تاريخي. وكأن القصة تُروى على لسان كاتب يُعبّد طريق النسب المختار بثرثرة لغوية، تعيد تعريف كل شيء: المرأة، المكان، الوعد.
---
### خلاصة
رفقة ليست مجرد أم. إنها كاهنة خفية، قائدة مشهد، وراوية خلف الستار.
وسرد التوراة لا يخفي يد الكاتب اللاهوتي الذي يعيد تسمية الأماكن، ويُسمِع الشخصيات ما لم يُقَل، ليقود القارئ نحو تاريخ مختار... صُنِع بالكلمات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
مرحبا بكم