الثلاثاء، 3 يونيو 2025

من الغُربة إلى الوعد: كيف غيّرت التوراة موطن الآباء؟

 

من الغُربة إلى الوعد: كيف غيّرت التوراة موطن الآباء؟


### المفارقة الصادمة بين حرّان وكنعان


في بدايات سفر التكوين، يظهر موطن الآباء الأوائل (إبراهيم، إسحاق، يعقوب) متجذرًا في أرض "حرّان" الواقعة في الشرق، حيث خرج منها تارح بابنه أبرام نحو كنعان. ورغم وصولهم إلى كنعان، إلا أن النص يصف إبراهيم بالقول: "أنا غريب ونزيل عندكم" (تكوين 23:4)، ويأمر خادمه قائلًا:


> "فاستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم، بل إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني إسحاق" (تكوين 24:3–4).


بل وتتكرر الصورة مع يعقوب، حين ترسله أمه رفقة إلى بيت أخيها في حرّان ليحتمي ويتزوج من عشيرتهم. كانت حرّان بوضوح "أرض الأهل والعشيرة"، وكانت كنعان أرض إقامة مؤقتة، غريبة ثقافيًا ودينيًا.


### التحول الغريب: كنعان تصبح أرض العشيرة فجأة!


بعد عشرين عامًا فقط في سياق قصة يعقوب، يأتي أمر لافت في (تكوين 31:3):


> "وقال الرب ليعقوب: ارجع إلى أرض آبائك وإلى عشيرتك، فأكون معك."


لكن، ألم تكن أرض الآباء والعشيرة هي حرّان؟ متى أصبحت كنعان؟ وكيف تحولت من أرض غربة إلى أرض الموطن والهوية؟ هذا التحول المفاجئ في توصيف الأرض يحمل بصمات لاهوتية واضحة.


### نقد السياق اللاهوتي: تضارب في الانتماء


النص لا يقدم مبررًا لهذا التحول المفاجئ. فالأرض التي خرج منها إبراهيم (حرّان) والتي أُرسل إليها خادمه ثم ابنه يعقوب للزواج من العشيرة، تصبح فجأة في خطاب الرب ليعقوب "أرض الآباء"، دون أن يكون قد عاد إليها أحد سابقًا كمواطن. يبدو أن النص يُعيد بناء الجغرافيا والهُوية بتوجيه لاحق يتجاوز الوقائع.


### تفسير التحول: البناء اللاهوتي للنص


هذا التناقض ليس عفويًا، بل يخدم توجهات لاهوتية ظهرت لاحقًا في تاريخ كتابة النصوص، منها:


1. **ترسيخ كنعان كوطن شرعي وموعود** يخدم سردية الوعد الإلهي والسيطرة.

2. **إزاحة الانتماء إلى حرّان** لتقليل الأثر الآرامي وإبراز هوية منفصلة.

3. **تمهيد لقصص الخروج والعودة**، حيث تصبح كنعان مسرح النبوة والتاريخ المقدس.


### مقارنة سردية بين إبراهيم ويعقوب


| الشخصية | أرض الانتماء الأصلية | توصيف كنعان     | ملاحظات                    |

| ------- | -------------------- | --------------- | -------------------------- |

| إبراهيم | حرّان                | غربة            | لم يُوصف كنعان بالوطن قط   |

| إسحاق   | لم يغادر كنعان       | غربة            | زواجه يجب أن يكون من حرّان |

| يعقوب   | وُلد في كنعان        | تصبح وطنًا فجأة | بعد عودته من حرّان         |


### الخلاصة: كنعان وطن مختلَق بالتدريج


يتضح أن التوراة تعيد تعريف الانتماء الجغرافي حسب الحاجة اللاهوتية والسياسية. فكنعان، التي كانت يومًا أرضًا غريبة، أصبحت تدريجيًا الوطن الروحي والسياسي للعشيرة، دون أن يرافق هذا التحول أي تبرير منطقي أو انتقال حقيقي.


التحول لم يكن في خطوات العشيرة على الأرض، بل في **خطاب النص**، وفي **التحرير اللاهوتي** المتأخر، الذي صاغ هوية جديدة ترتكز على كنعان كوطن مقدس.


> كنعان لم تكن يومًا وطن الآباء، لكنها أصبحت كذلك على الورق، وفي النص، لتُصبح حجر الزاوية في كل بناء لاهوتي لاحق.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بكم