الثلاثاء، 24 يونيو 2025

رجس الرعاة: مفارقة يوسف في أرض مصر

 



 رجس الرعاة: مفارقة يوسف في أرض مصر


> **«لأن كل راعي غنم رجس عند المصريين»** (سفر التكوين 46: 34)


عبارة قصيرة، لكنها تثير مفارقة لافتة في قصة يوسف وإخوته، وتدفعنا للتساؤل:

**هل كان الرعاة فعلًا رجسًا في نظر المصريين؟ وهل الرواية التوراتية متسقة مع الواقع التاريخي؟**


في هذا المقال، نعرض مجموعة من التناقضات التي تحيط بهذه العبارة، ونكشف كيف أن الرواية تحمل في طياتها علامات تصنّع، لا تصويرًا موضوعيًا.


---


### 🔹 1. المصريون يحبّون الكباش… فكيف يحتقرون الرعاة؟


الفن المصري القديم يصوّر مشاهد الرعي والماشية بكل فخر. الكبش تحديدًا كان رمزًا للإله آمون، ويُزيِّن مداخل المعابد الكبرى في الكرنك.

فهل يعقل أن يحتقر المصريون من يرعون تلك الحيوانات المقدّسة؟ هذا تناقض ثقافي واضح.


---


### 🔹 2. أرض جاشان الخصبة ليست منفى… بل مطمع


أُسكن إخوة يوسف في "أرض جاشان"، وهي جزء من أرض مصر، وبحسب النص:


> **«في أفضل الأرض، في أرض رعمسيس كما أمر فرعون»** (تكوين 47: 11)


فلم تكن منطقة معزولة أو قاحلة، بل خصبة وقريبة من مركز الحكم. فهل يُعقل أن يُسكن فيها "رجس"؟


---


### 🔹 3. يوسف صاحب النفوذ… هل يعجز عن إعطائهم مكانة أفضل؟


يوسف لم يكن شخصًا عاديًا، بل صاحب سلطة شبه مطلقة. بل إن فرعون نفسه قال له:


> **«وإن علمت أن فيهم ذوي قدرة، فاجعلهم رؤساء مواش على التي لي»** (تكوين 47: 6)


فإذا كانوا رعاة محتقرين، فلماذا يُولّيهم فرعون الإشراف على ممتلكاته؟ أليس هذا اعترافًا بمكانتهم وجدارتهم؟


---


### 🔹 4. إخوة يوسف أغنياء… فلماذا يعملون أصلًا؟


الرواية تؤكد أن يوسف لم يُسكنهم فقط، بل:


> **«أعطاهم ملكًا… وعال يوسف أباه وإخوته وكل بيت أبيه بطعام على حسب الأولاد»** (تكوين 47: 12)


هم ضيوف مكرّمون، معالون من يوسف مباشرة، فلماذا يُصوَّرون كمضطرين للعمل في مهنة محتقرة؟


---


### 🔹 5. عبارة "رجس" تكشف أيديولوجيا كاتب متأخر


القول إن الرعاة "رجس" لا يعكس الواقع المصري، بل يبدو أنه **وجهة نظر كاتب لاحق**، أراد:


* تبرير عزلة بني إسرائيل في مصر.

* التمهيد لمشاعر الاضطهاد والانفصال.

* تصوير المصريين كقوم لا ينسجمون مع "طهارة" بني إسرائيل.

وجهة نظر تحليلية 


من خلال تتبع تصرفات يوسف في مصر، يبدو أنه كان يتصرف بحكمة حذرة، واضعًا في اعتباره ما حدث في الماضي.
لقد عرف إخوته عن قرب، وذَاق بنفسه مرارة غيرتهم حين ألقوه في البئر بسبب قميص يفضّله أبوه، فكيف لو رأوه اليوم في قصر ملكي، متزوجًا من كريمة الكهنة، وله أبناء في البلاط المصري؟
يوسف لم يُقصِهم عن كرم العيش، لكنه أبعدهم عن مركز حياته الجديدة، وكأنما أراد أن يحميهم – ويحمي نفسه – من تكرار مشاعر الحسد القديمة في ثوبٍ جديد.
لقد أعطاهم أرضًا جيدة، واستقلالًا مريحًا، لكنه لم يدمجهم في طبقته الجديدة، لا قسوةً ولا ترفّعًا، بل حرصًا على بقاء المحبة بعد أن عادت.

يوسف... من حافظ على المسافة بدقة
حين رأى يعقوب ولدي يوسف، سأله: "من هذان؟"، وكأنهما غريبان عنه رغم كل ما جرى.
لم يكن ذلك لأن يعقوب أعمى فقط، بل لأن يوسف لم يدمج أولاده في حياة أبيه وإخوته.
لقد حافظ على مسافة محسوبة بين عائلته الملكية المصرية، وبين عائلة أبيه الرعوية.
لم يكن ذلك من قسوة… بل من ذكاء بالغ.
يوسف يعرف تمامًا كيف تُشعل الفوارق الطبقية نار الحسد، وقد ذاقها بنفسه.
لذلك، اختار أن يُبقي كل دائرة في مكانها، ويمنح كل طرف كرامته من غير تصادم.

---



### 🟨 خاتمة


الرواية التوراتية هنا لا تنقل لنا تاريخًا دقيقًا، بل خطابًا أيديولوجيًا محمّلًا بالرموز والعوازل النفسية.

الاحتقار المزعوم للرعاة يتناقض مع التاريخ المصري، ومع كرم فرعون، ومع مكانة يوسف، ومع الغنى الذي عاشه إخوته.


فهل نحن أمام قصة حقيقية؟ أم أمام **حبكة أدبية تهدف للعزل والتمهيد للاضطهاد**؟



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بكم