الجمعة، 30 مايو 2025

أين كانت "أرض إبراهيم"؟ كنعان أم حَـرّان؟

## أين كانت "أرض إبراهيم"؟ كنعان أم حَـرّان؟


في تكوين 24:4 قال إبراهيم لعبده:


> "بل إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتاخذ زوجة لابني إسحاق."


وهنا يثور سؤال جوهري: لماذا اعتبر إبراهيم أن "أرضه" هي مدينة ناحور (التي يُرجح أنها حَـرّان جنوب شرق تركيا)، بينما عاش أغلب عمره في أرض كنعان، وأنجب فيها جميع أبنائه، وبنى فيها مذابحه، واشترى فيها مغارته، ودفن فيها هو وزوجته؟


---


### ✦ المعطيات التوراتية:


* وُلِد إبراهيم في **أور الكلدانيين**.

* انتقل مع أبيه **تارح إلى حَـرّان** وعاش فيها نحو خمس سنوات.

* خرج من حَـرّان إلى كنعان في عمر **75 سنة**.

* توفي عن عمر **175 عامًا**، أي عاش في كنعان **100 عام**.

* وُلد إسماعيل حين كان عمره **86 سنة**، وكانت سارة بعمر **76 عامًا** (لأنها أصغر بعشر سنوات).

* وُلد إسحاق عندما كان إبراهيم **100 سنة** وسارة **90 سنة**.

* ماتت سارة عن **127 سنة**، وكان إبراهيم حينها **137 عامًا**.

* بعد وفاة سارة، تزوج إبراهيم قطورة وأنجب منها، رغم كبر سنه.


---


### ✦ لماذا لم يعتبر كنعان أرضه؟


رغم أن كنعان كانت موطن إقامته الفعلي، قال إبراهيم لبني حث:


> "أنا غريب ونزيل عندكم" (تكوين 23:4)


وقد فُسِّرت هذه العبارة بأنها **تعبير روحي عن الغربة**، وأن إبراهيم كان ينتظر "مدينة لها الأساسات" (عبرانيين 11). لكن من جانب آخر، نجد أن إبراهيم:


* بنى فيها 4 مذابح.

* حفر آبارًا وسمّاها.

* دُفن فيها هو وسارة.

* عاش فيها أبناؤه.


ومع ذلك، رفض وصف كنعان بأنها "أرضه". فهل كان صادقًا أم دبلوماسيًا؟ أم أن النص يعكس رؤية لاهوتية تتجاوز الجغرافيا؟


---


### ✦ وهل كانت حَـرّان أرضه؟


* عاش فيها نحو 5 سنوات.

* لم يُذكر أنه بنى فيها مذبحًا أو اقتنى أرضًا.

* لم يُدفن فيها أحد من عائلته.

* ومع ذلك، أصر أن تُؤخذ زوجة إسحاق من هناك.


وقد يُفهم من ذلك أنه اعتبرها أرض **العشيرة** لا أرض **الإيمان**، أي منطلق الأنساب لا موطن الميعاد.


لكن الأغرب أن إبراهيم:


* **لم يعد إليها** أبدًا.

* **رفض أن يعود إليها إسحاق**.

* قال: "احترز من أن ترجع بابني إلى هناك" (تكوين 24:6).


---


### ✦ زوجته قطورة وأبناؤه من السراري:


* لا يُقال إن قطورة كانت من عشيرته، بل تشير أسماؤها وأبناءها إلى أصول عربية جنوبية أو كنعانية.

* لم يسع إبراهيم لربطهم بنسل الموعد.

* بل أرسلهم بعيدًا شرقًا وهو حيّ (تكوين 25:6).


---



### ✦ إبراهيم... هل كان وفيًا؟


من خلال التوراة، تتجلى عدة مواقف تُبرز تناقضات في شخصية إبراهيم:


1. **مع أبيه تارح**: لم يعد إليه، ولا شاركه في دفنه.

2. **مع أخيه ناحور**: تركه في حَـرّان، ولم يتواصل معه إلا من خلال تزويج إسحاق.

3. **مع هاجر**: وافق على إذلالها بطلب من سارة (تكوين 16:6)، بل لم يدافع عنها وهي تهرب.

4. **مع إسماعيل**: طرده وهو غلام مع أمه إلى البرية (تكوين 21)، رغم كونه ابنه البكر.

5. **مع أبناء قطورة**: أرسلهم إلى الشرق بلا ميراث.

6. **مع سارة**: بعد وفاتها، تزوج وولّد، دون أن يظهر حزنًا عليها أو وفاء خاصًا.



وهكذا، فإن إبراهيم التوراتي يبدو **رجل وعود وعقيدة**، لا **رجل عائلة وعاطفة**. وقد تكون هذه الصفات انعكاسًا لصورة "الأب المؤسس" التي تَطلبت تجريده من الانتماءات البشرية لصالح انتماء إلهي خالص.


---


### ✦ مشهد شراء المغارة ودلالته:


قال إبراهيم:


> "أنا غريب ونزيل عندكم. أعطوني ملك قبر لادفن ميتي."


فرد عليه بنو حث:


> "أنت رئيس من الله بيننا..."


ورغم احترامهم له، أصر على **شراء الأرض** بثمن كامل. وهنا تتجلى **رحمة الله** في حفظ كرامة إبراهيم، دون أن تتحول الأرض لوعد سياسي أو ملك حربي.


لكنها تطرح سؤالًا آخر:


* لماذا يُنتزع الوعد بالإيمان، بينما الميراث لا يُنتزع إلا بالموت؟


---


### ✦ خلاصة نقدية:


| جانب         | كنعان                                | حَـرّان    |

| ------------ | ------------------------------------ | ---------- |

| مدة الإقامة  | 100 سنة                              | 5 سنوات    |

| الإنجازات    | مذابح، آبار، شراء مغارة، دفن العائلة | لا شيء     |

| الأبناء      | جميعهم في كنعان                      | لا أحد     |

| علاقة السكان | احترام وثقة                          | غير مذكورة |

| الدفن        | إبراهيم، سارة، يعقوب                 | لا أحد     |


> ✦ لذلك، فإن وصف حَـرّان بأنها "أرضه" يعكس بعدًا **عشائريًا قبليًا**، بينما كانت كنعان هي **أرض المعيشة والتجربة والميعاد**.

بالطبع، إليك مقالًا تحليليًا موسعًا يدمج بين المفارقات اللاهوتية والسردية في سفر التكوين، مستندًا إلى التدوينة المشار إليها بعنوان "أين كانت أرض إبراهيم؟ كنعان أم حَـرّان؟"، ويستعرض التحولات في مفهوم الأرض والعشيرة والهوية في الرواية التوراتية:


---


## **من "اذهب" إلى "ارجع": تحولات الهوية في سردية إبراهيم ويعقوب**


### **1. نداء القطيعة: إبراهيم في تكوين 12**


في بداية المسيرة الإبراهيمية، يأتي النداء الإلهي لإبراهيم:


> "وقال الرب لأبرام: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك."

> *(تكوين 12:1)*


هذا النداء يُعد تأسيسًا لهوية جديدة، تنفصل عن الروابط التقليدية: الأرض، العشيرة، وبيت الأب. إنه دعوة للانفصال عن الماضي والانطلاق نحو مستقبل مجهول، حيث يُبنى شعب جديد على أساس الإيمان والطاعة.


### **2. التراجع عن القطيعة: إبراهيم في تكوين 24**


لاحقًا، نرى تحولًا في موقف إبراهيم:


> "بل إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني إسحاق."

> *(تكوين 24:4)*


هنا، يُظهر إبراهيم رغبة في الحفاظ على الروابط العشائرية، من خلال اختيار زوجة لابنه من عشيرته. هذا التراجع عن القطيعة يُشير إلى تعقيد الهوية الإبراهيمية، حيث تتداخل الرغبة في التميز مع الحاجة إلى الحفاظ على الروابط الاجتماعية والثقافية.


### **3. نداء العودة: يعقوب في تكوين 31**


مع يعقوب، يتكرر النداء الإلهي، ولكن بصيغة معاكسة:


> "وقال الرب ليعقوب: ارجع إلى أرض آبائك وإلى عشيرتك، فأكون معك."

> *(تكوين 31:3)*


هذا النداء يُمثل تحولًا من القطيعة إلى العودة، حيث يُطلب من يعقوب الرجوع إلى جذوره. إنه يُشير إلى أن الهوية الإبراهيمية ليست فقط في الانفصال عن الماضي، بل أيضًا في المصالحة معه.


### **4. تحليل نقدي: التوتر بين القطيعة والعودة**


هذه التحولات تُظهر توترًا في الرواية التوراتية بين الرغبة في تأسيس هوية جديدة والانفصال عن الماضي، والحاجة إلى الحفاظ على الروابط العشائرية والثقافية. يمكن تفسير هذا التوتر على أنه انعكاس لصراعات داخلية في المجتمع الذي أنتج هذه النصوص، حيث كان يسعى للتوفيق بين التقاليد القديمة والمتطلبات الجديدة للهوية الدينية.


### **5. الخلاصة: هوية متجددة ومتجذرة**


في النهاية، تُظهر الرواية التوراتية أن الهوية الإبراهيمية هي هوية متجددة ومتجذرة في آن واحد. إنها تدعو إلى الانفصال عن الماضي عندما يكون ذلك ضروريًا، ولكنها لا تتردد في العودة إليه عندما يكون ذلك مفيدًا. هذا التوازن بين القطيعة والعودة يُشكل جوهر الهوية الإبراهيمية كما تُصوّرها الرواية التوراتية.


**إعداد وتنسيق:** محمد عيسى – 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بكم