# **هاجر المصرية: الجارية التي كلمت الملاك وتُركت بلا وداع**
**مقدمة**
وسط سرديات التوراة التي تحتفي بالبطريركيات العبرانيات كـ"سارة" و"رفقة" و"راحيل"، تظهر "هاجر" كحضور غريب، آتٍ من مصر، تحمل في سيرتها مفارقة لافتة: تُذكر بالاسم، وتتكلم، ويخاطبها ملاك الرب مباشرة، وتصبح أمًا لنسل عظيم – ورغم ذلك، تُنسى عند موتها، ولا تحظى بأي وداع أو تأبين كما حظيت سارة. فمَن هي هاجر حقًا؟ وما دلالة ظهورها في النص التوراتي؟
---
## **سادس امرأة تُذكر بالاسم في التوراة**
قبل هاجر، لا تذكر التوراة إلا 7 نساء بأسمائهن: حواء، و عادة وصله زوجتي لامك، نعمة بنت لامك ثم سارة بنت تارح أبو أبراهيم ثم ملكة زوجة ناحور أخو أبراهيم وأبنة هاران أخوهما،ثم يسكة أخت ملكة ثم تأتي هاجر في الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين، كامرأة مصرية، جارية في بيت سارة.
ورغم وضعها الاجتماعي المنخفض، فإن التوراة تخصص لها حيزًا سرديًا نادرًا؛ فهي ليست مجرد هامش في قصة إبراهيم، بل طرف فاعل، يتكلم، يهرب، ويتلقى وحيًا مباشرًا من ملاك الرب.
---
## **ثالث امرأة تتحدث في التوراة**
هاجر هي ثالث امرأة نسمع صوتها بعد حواء وسارة. تتحدث أولاً بحضور صامت: "فلمّا رأت أنها حبلى صغرت مولاتها في عينيها" (تكوين 16:4)، ثم يتصاعد الحدث إلى لحظة درامية فارقة: تهرب هاجر إلى الصحراء، وهناك، في عالم منفى رمزي، يظهر لها **ملاك الرب** – ويبدأ بينهما حوارٌ يُعدّ من أقدم الحوارات بين إنسان وملاك في النص التوراتي.
---
## **لقاء الملاك: وحيٌ منسي؟**
في سفر التكوين 16:7-13، يخاطب ملاك الرب هاجر قائلًا:
> "ارجعي إلى مولاتك وتذللي تحت يديها... ها أنت حبلى، فتلدين ابنًا، وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك."
وهي المرأة **الوحيدة في العهد القديم** التي تُبشَّر مباشرة بولد وتسميه قبل ولادته. بل إن النص يضيف بعد ذلك أن هاجر سمت اسم الرب الذي كلمها: **"أنت إيل رُئي"** (أي: "إله الرؤيا" أو "الإله الذي يراني")، ثم تقول: **"ألم أَنظر أيضًا إلى هنا بعد رؤيتي؟"** – وهي من أندر لحظات التصوف الشخصي في النص.
---
## **تصميمها على مصاهرة مصر**
في الإصحاح 21 من التكوين، وبعد طردها النهائي مع ابنها إسماعيل، نجد فقرة لافتة:
> "وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر" (تكوين 21:21)
تؤكد التوراة أن هاجر اختارت لابنها زوجة مصرية، وكأنها تصر على حفظ جذورها، ورد الاعتبار لهويتها الأصلية، رغم أن مصر نفسها كانت – بحسب روايات لاحقة – موضع ريبة لبني إسرائيل. هذا القرار الأنثوي الصامت هو بمثابة بيان رمزي: أن إسماعيل لن يُقطع عن مصر.
---
## **غياب الموت... غياب الوداع**
بعكس سارة التي خصص لها سفر التكوين إصحاحًا كاملاً يحكي وفاتها ودفنها ومكان قبرها (تكوين 23)، فإن **هاجر تُغيب كليًا**. لا يذكر النص وفاتها، ولا يودعها أحد، ولا نعرف مصيرها الأخير.
هذا التجاهل ليس مجرد سهو، بل قد يكون تعبيرًا ضمنيًا عن رؤية التوراة لها: كأم بديلة، لا تنتمي إلى مشروع بني إسرائيل، ولذلك لا تستحق الخاتمة أو الذكر بعد أداء دورها.
---
## **خاتمة: الجارية التي رآها الإله**
هاجر، في منظور التوراة، ليست فقط جارية حبلى، بل امرأة شُهِدَت من قِبل الرب، وتكلم معها ملاكه، وسُميت رؤيتها باسم الإله. إنها أول من أطلقت على الله صفة "الرائي"، أول من سمّاه من التجربة لا من التعليم.
لكنها، مع ذلك، تظل خارج البيت، خارج العهد، خارج التاريخ المقدس لبني إسرائيل. حضورها كان قويًا في الهامش، لكنه لم يُسمح له بالمرور إلى مركز الرواية.
ولعل هذا ما يمنحها بعدًا إنسانيًا فريدًا: أنها تمثل تلك الأصوات التي سُمعَت في لحظة الألم... ثم أُسكِتت.
---
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
مرحبا بكم