الجمعة، 4 يوليو 2025

لكِي تفهم بداية موسى… يجب أن تتجاوز

 

لكِي تفهم بداية موسى… يجب أن تتجاوز


في ظِلال سردية التوراة، يقف القارئ اليوم أمام مفارقةٍ زمنيّة ونَسبيّة تجعل من بداية موسى نقطة التقاء بين ثلاثة عصور: عصر إبراهيم، وعصر يوسف، وعصر الخروج. ولكي نفهم فعلاً كيف انطلق موسى، علينا أولاً **أن نتجاوز** القراءة الحرفية المباشرة للأحداث والأنساب، وننظر إلى:


1. **الخلفية الزمنية**

2. **الفراغ الصامت** بين يوسف وموسى

3. **ضغط السرد والأنساب المضغوطة**


---


### 1. الخروج والـ 430 سنة… أي متى دخل يوسف مصر فعليًّا؟


* **التقليد اليهودي المحافظ** يرى أنّ الخروج حصل حوالي **1446 ق.م**، فتكون مدة الإقامة في مصر (حسب خروج 12:40) = 430 سنة، أي:


  > دخول يعقوب ويُوسُف إلى مصر = 1446 + 430 = **1876 ق.م**

  > ويوسُف وقف أمام فرعون في عمر **30** ⇒ حوالي **1870 ق.م**

  > ومات بعد 80 سنة (عمره 110) ⇒ **1790 ق.م**


* **الرأي النقدي** الأثري يضع الخروج عن نحو **1260 ق.م**، فتكون سنة دخول إسرائيل = 1690 ق.م، ويكون يوسف في العهد الهكسوسي (حوالي 1650–1550 ق.م).


لكنهما يتفقان على نقطة واحدة:


> **يوسف مات قبل الخروج** وصعود الملك الجديد الذي «لم يعرف يوسف» (خروج 1:8).


---


### 2. الفراغ الزمني بين يوسف وموسى (264 سنة من الصمت)


بحسب الفرضية المحافظة (الخروج 1446 ق.م):


* وفاة يوسف ≈ **1790 ق.م**

* ميلاد موسى = عمره 80 عامًا عند الخروج ⇒ 1446 + 80 = **1526 ق.م**

* **الفارق = 1790 – 1526 = 264 سنة**


وهذه الـ 264 سنة هي **صحراء سردية** لا يملؤها الكتاب إلا ببيانين موجزين جدّاً (خروج 1:6–8):


1. «مات يوسف وجميع إخوته وجميع ذلك الجيل.»

2. «أثمَر بنو إسرائيل، وامتلأت بهم الأرض… ثم قام ملك جديد لم يعرف يوسف.»


خلال هذه القرون:


* تبدّلت الأسرة الحاكمة (الهكسوس → الأسرة المصرية الثامنة عشر)،

* تضخّم عدد بني إسرائيل فاشتدّ خوف المصريين،

* بدأت سياسة العمل بالسخرة فتدرّجت إلى العبودية الكاملة.


---


### 3. معضلة “بنت لاوي” وضغط الأنساب


عندما نقرأ:


> «وذهب رجل من بيت لاوي، وأخذ بنت لاوي… فولدت له موسى وهارون ومريم.» (خروج 2:1–2، وعدد 26:59)


يتصاعد سؤال معاصر:

**كيف تزوج عمرام ابن أخته (يوكابد)؟**

ولماذا لم يوقفهم تحريم “زواج العمّة” (لاويين 18:12)؟


#### التفسير النقدي البسيط:


* كلمة **“بنت”** في العبرية التراثية **لا تعني بالضرورة “ابنته المباشرة”**، بل «من نسل» لاوي؛ مثلما يُقال «بنت صهيون» عن أهل صهيون.

* السرد التوراتي **يضغط الأجيال** أحيانًا إلى “جدّ–ابن–حفيد” فقط، مخصّرًا مئات السنين في ٣–٤ أسماء.

* تحريم الزواج من العمّة جاء لاحقًا عند تشريع موسى نفسه، فأُدرجت القوانين بعد الفعل التاريخي.


وبذلك، تكون يوكابد **امرأة من بيت لاوي** (ليس بالضرورة ابنته الوحيدة)، و«ابنة لاوي» مجازيًا، وزواجها من “ابن قهات” (عمرام) ضغطٌ سرديّ يُعزّز انتماء موسى إلى “بيت لاوي” الكهنوتي والنبوي.


---


## لمَ يجب أن تتجاوز القراءة المباشرة؟


1. **قراءة الأرقام الحرفية** تقودك إلى تناقضٍ بيولوجيّ، فكيف لمحمّدٍ حفيدٍ مباشرٍ أن يُولد بعد قرون من وفاة جده؟

2. **الصيغة المجازية والرمزية** في كتابة الأنساب كانت مألوفة لدى الشعوب القديمة لربط “الشخصية المحورية” بجدٍّ تاريخيّ ووظيفيّ (موسى كليم الله = من نسل لاوي الكهنوتي).

3. **التركيز على المقصد اللاهوتي**: إبراز الانتقال من عهد يوسف (عصر الرخاء والامتياز) إلى عهد موسى (عصر العبودية والخلاص) فوق كل اعتبار تفصيلي.


---


### خاتمة


> **لكي تفهم بداية موسى… عليك أن تتجاوز**

>

> * **التواريخ الحرفية** التي تفضي إلى فجوات زمنية مرعبة،

> * و**الأنساب المضغوطة** التي لا تناسب المنطق البيولوجي الحديث،

> * و**التشريعات اللاحقة** التي وُضعت بعد الأحداث لتحكم مجتمعًا لم يعد في عصر الآباء.


ففي قلب هذه الفجوات والضغوط السردية، ينبثق موسى: **صوتٌ يسمع الله أنين شعبه**.


وهكذا تبدأ الرحلة الحقيقية: **من صمت التاريخ… إلى صدى الحكمة السماوية.**


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بكم